الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وفيه أنه لا ضد له ولا ند إذ لو كان في الوجود واجب آخر لكانت مفاتح الغيب حاصلة أيضًا عنده فيبطل هذا الحصر، ولا يمكن أن تكون هذه المفاتح عند شيء من الممكنات لأن المحاط لا يحيط بمحيطه فلا يحيط ما دون الواجب بالواجب، فلا يكون المفتاح الأوّل للعلم بجميع المعلومات إلا عنده. ثم إن قوله: {وعنده مفاتح الغيب} قضية معقولة مجردة، والإنسان الذي يقوي على الإحاطة بمعنى هذه القضية نادر جدًا والقرآن إنما نزل لينتفع به جميع الناس فذكر من الأمور المحسوسة الداخلة تحت تلك القضية الكلية أمثالًا لها ليعين الحس العقل فقال: {ويعلم ما في البر والبحر} لأن ذكر هذا المحسوس يكشف عن حقيقة عظيمة لذلك المعقول، وقدم ذكر البر لأن الإنسان قد شاهد أحوال البر وكثرة ما فيه من المدن والقرى والجبال والتلال والمعادن والنبات والحيوان، وأما البحر فإحاطة الحس بأحواله أقل مع كثرة ما فيها من العجائب والغرائب أيضًا. ثم أفرد من هذه المحسوسات قسمًا فقال: {وما تسقط من ورقة إلا يعلمها} أي لا يتغير حال ورقة إلا والحق يعلمها. ثم عدل عن التعجيب من كثرة المدركات إلى التعجيب من صغر المدرك وخفائه فقال: {ولا حبة في ظلمات الأرض} وفي تخصيص الحبة والورقة تنبيه للمكلفين على أمر الحساب لأنه إذا كان بحيث لا يهمل أمر الأشياء التي ليس لها ثواب ولا عقاب فلأن لا يهمل أمر المكلفين أولى. ثم عاد إلى ذكر القضية الكلية المجردة بعبارة أخرى فقال: {ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} قال في الكشاف: ولا حبة ولا رطب ولا يابس عطف على ورقة وداخل في حكمها كأنه قيل: وما يسقط شيء من هذه الأشياء إلا وهو يعلمه. وقوله: {إلا في كتاب مبين} كالتكرير لقوله: {إلا يعلمها} ومعنى {إلا في كتاب مبين} واحد. والكتاب المبين علم الله أو اللوح. قال علماء التفسير: يجوز أن يكون الله جل شأنه أثبت كيفية المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق لتقف الملائكة على نفاذ علمه في المعلومات وأنه لا يغيب عنه شيء، فيكون في ذلك عبرة كاملة للملائكة الموكلين باللوح المحفوظ لأنهم يقابلون به ما يحدث في العالم فيجدونه موافقًا له. أو لأنه إذا كتب أحوال جميع الموجودات في ذلك الكتاب على التفصيل التام امتنع تغيرها وإلا لزم الكذب أو الجهل فتصير كتبة جملة الأحوال في ذلك الكتاب سببًا تامًا في أنه يمتنع تقدم ما تأخر وتأخر ما تقدم.ثم لما بين كمال علمه أردفه ببيان كمال قدرته بقوله: {وهو الذي يتوفاكم} أي يتوفى أنفسكم التي بها تقدرون على الإدراك والتمييز. وذلك أن الأرواح الجسمانية تغور حالة النوم من الظاهر إلى الباطن فتتعطل الحواس عن بعض الاعمال، وأما عند الموت فتصير جملة البدن معطلة عن كل الأعمال فلهذا كان النوم أخا الموت فصح إطلاق لفظ الوفاة على النوم من هذا الوجه {ويعلم ما جرحتم} أي ما كسبتم من العمل بالنهار ومنه الجوارح للأعضاء وللسباع {ثم يبعثكم فيه} أي يردّ إليكم أرواحكم بالنهار {ليقضي أجل مسمى} أي أعماركم المكتوبة. وقضاء الأجل فصل مدة العمر من غيرها بالموت. ثم لما ذكر أنه يميتهم أولًا ثم يوقظهم ثانيًا كان ذلك جاريًا مجرى الإحياء بعد الإماتة فلا جرم استدل بذلك على صحة البعث في القيامة فقال: {ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون} في ليلكم ونهاركم وجميع أحوالكم وأوقاتكم. واعلم أن في هذه الآية إشكالًا لأن قوله: {ويعلم ما جرحتم بالنهار} كان ينبغي أن يكون بعد قوله: {ثم يبعثكم فيه} فإن البعث في النهار مقدم على الكسب فيه بل على تعلق العلم بالكسب. ويمكن أن يجاب بأن المراد ويعلم ما جرحتم في النهار الماضي بدليل قوله: {جرحتم} دون تجرحون ثم يبعثكم في النهار الآتي. والغرض بيان إحاطة علمه وقدرته بالزمانين المحيطين بالليل. ولعل صاحب الكشاف لمكان هذا الإشكال عدل عن هذا التفسير إلى أن قال: {وهو الذي يتوفاكم بالليل} والخطاب للكفرة أي أنتم منسدحون الليل كالحيف. والانسداح الانبطاح أو الاستلقاء {ويعلم ما جرحتم بالنهار} ما كسبتم من الآثام فيه {ثم يبعثكم} من القبور {فيه} أي في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام في النهار ومن أجله كقولك: فيم دغوتني؟ فيقول: في أمر كذا {ليقضي أجل مسمى} وهو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم {ثم إليه مرجعكم} وهو المرجع إلى موقف الحساب. والأصوب عندي أن يقال: الخطاب عام، وكذا الكسب في النهار فينبغي أن لا يقيد بالآثام. أما الضمير في {فيه} فيكون جاريًا مجرى اسم الإشارة إلى الكسب. والبعث هو البعث من القبور إلى آخر ما قال والله علم. اهـ.
قال المحققون: الإرادة اهتياج يحصل في القلب يسلب القرار من العبد حتى يصل إلى الله. فصاحب الإرادة لا يهدأ ليلًا ولا نهارًا، ولا يجد من دون الوصول إلى الله سبحانه سكونًا ولا قرارًا {ما عليك من حسابهم من شيء} يعني الذي لنا معك في الحساب من المواصلة والتوحيد في الخلوة فإنهم ليسوا في شيء من ذلك ليكون عليك ثقلًا {وما من حسابك عليهم من شيء} أي الذي لنا معهم في الحساب من التفرد للوصول والوصال ليس لك إلى ذلك حاجة ليثقل عليهم {فتطردهم} فتكسر قلوبهم بالطرد {فتكون من الظالمين} بوضع الكسر مقام الجبر فإنك بعثت لجبر قلوبهم لا لكسر قلوبهم كقوله: {واخفض جناحك للمؤمنين} [الحجر: 88] {وكذلك فتنا بعضهم ببعض} ليشكر الفاضل وليصبر المفضول فيستويان في الفضل فلهذا قيل: لسليمان ولأيوب كليهما: نعم العبد. مع قدرة سليمان على أسباب الطاعة وعجز أيوب عنها. ومن فتنة الفاضل في المفضول رؤية فضله على المفضول أو تحقيره، ومنع حقه عنه في فضله، ومن فتنة المفضول في الفاضل حسده على فضله وسخطه عليه في منع حقه من فضله عنه، فإن المعطي والمانع هو الله. ومنه أن لا يرى الفاضل مستحقًا للفضل ليقولوا {أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا} {فقل سلام عليكم} إنه سبحانه من كمال فضله على الفقراء حملهم محمل الأكابر والملوك في الدنيا فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: «كن مبتدئًا بالسلام عليهم وفي الآخرة فألهم الملائكة أن يسلموا عليهم في الجنة» {سلام عليكم طبتم} [الزمر: 73] بل سلم بذاته عليهم {سلام قولًا من رب رحيم} [يس: 58] وكل ذلك نتيجة سلامتهم من ظلمة الخلقة بإصابة رشاش النور في الأزل فلهذا قال: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} أي الرحمة الخاصة كما خص الخضر في قوله: {وآتيناه رحمة من عندنا} [الكهف: 65] والرحمة العامة كما في الحديث الرباني للجنة «إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي» {أنه من عمل منكم} أي من المؤمنين {سوءًا بجهالة} أي بجهالة الجهولية التي جبل الإنسان عليها لا بجهالة الضلالة التي هي نتيجة إخطاء النور فإن هذه لا توبة لها {ثم تاب من بعده} أي رجع إلى الله بقدم السير من بعد إفساد الاستعداد الفطري وأصلح الاستعداد بالأعمال الصالحة لقبول الفيض. {قل إني نهيت} في الأزل بإصابة النور المرشش. {ما عندي ما تستعجلون به} من عبادة الهوى {لقضي الأمر} يعني أمر القتال والخصومات ولاسترحت من أذيتكم لأن الشيء إنما ينفعل عن ضده لا عن شبيهه {وعنده مفاتح الغيب} يعني العلوم العقلية التي هي سبب فتح باب صور عالم الشهادة كالنقاش ينشيء الصور في ذهنه ثم يصوّرها في الخارج.وإنما وحد الغيب وجمع المفاتح لأن عالم الغيب عالم التكوين وهو واحد في جميع الأشياء وفي الملكوت كثرة يعلم التكوين {ويعلم ما في البر} وهو عالم الشهادة {والبحر} وهو عالم الغيب {و} بهذا العلم {ما تسقط من ورقة} عن شجرة الوجود {إلا يعلمها} لأنه مكونها ومسقطها {ولا حبة} هي حبة الروح {في ظلمات} صفات أرض النفس، أو حبة المحبة في ظلمات أرض القلب {ولا رطب ولا يابس} الرطب المؤمن، واليابس ما سيصير موجودًا وما قد صار. أو الرطب الروحانيات. واليابس الجمادات. أو الرطب المؤمن، واليابس الكافر. أو الرطب العالم، واليابس الجاهل. أو الرطب العارف، واليابس الزاهد. أو الرطب أهل المحبة، واليابس أهل السلوة. أو الرطب صاحب الشهود، اليابس صاحب الوجود. أو الرطب الباقي بالله واليابس الباقي بنصيبه {وهو الذي يتوفاكم بالليل} ليل القضاء {ويعلم ما جرحتم بالنهار} نهار القدر أو الليل، ليل صفات البشرية والنهار نهار الشهود في عالم الوحدة. اهـ.
|